الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الفخر: دلّت الآية على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وهذا يبطل مذهب القائلين بالموافاة، وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان. اهـ.قال الفخر:دلت الآية على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان، فوجب أن يكون الإيمان أيضًا كذلك لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذلك الآخر، وذكروا في تفسير هذه الزيادة وجوهًا:الأول: أنهم ماتوا على كفرهم.الثاني: أنهم ازدادوا كفرًا بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم، وعلى هذا التقدير لما كانت إصابة الذنوب وقت الكفر زيادة في الكفر فكذلك إصابة الطاعات وقت الإيمان يجب أن تكون زيادة في الإيمان.الثالث: أن الزيادة في الكفر إنما حصلت بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مستهزؤن} [البقرة: 14] وذلك يدل على الاستهزاء بالدين أعظم درجات الكفر وأقوى مراتبه.ثم قال تعالى: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ}وفيه سؤالان:الأول: أن الحكم المذكور في هذه الآية إما أن يكون مشروطًا بما قبل التوبة أو بما بعدها، والأول باطل لأن الكفر قبل التوبة غير مذكور على الإطلاق، وحينئذ تضيع هذه الشرائط المذكورة في هذه الآية.والثاني: أيضًا باطل لأن الكفر بعد التوبة مغفور، ولو كان ذلك بعد ألف مرة، فعلى كلا التقديرين فالسؤال لازم.والجواب عنه من وجوه:الأول: أنالآنحمل قوله: {إِنَّ الذين} على الاستغراق، بل نحمله على المعهود السابق، والمراد به أقوام معينون علم الله تعالى منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه قط فقوله: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} إخبار عن موتهم على الكفر، وعلى هذا التقدير زال السؤال.الثاني: أن الكلام خرج على الغالب المعتاد، وهو أن كل من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإسلام في قلبه وقع ولا عظم، والظاهر من حال مثل هذا الإنسان أنه يموت على الكفر على ما قررناه.الثالث: أن الحكم المذكور في الآية مشروط بعدم التوبة عن الكفر، وقول السائل: إن على هذا التقدير تضيع الصفات المذكورة.قلنا: إن إفرادهم بالذكر يدل على كفرهم أفحش وخيانتهم أعظم وعقوبتهم في القيامة أقوى فجرى هذا مجرى قوله: {وَإِذ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] خصهما بالذكر لأجل التشريف، وكذلك قوله: {وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98].السؤال الثاني:في قوله: {لِيَغْفِرَ لَهُمْ} اللام للتأكيد فقوله: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} يفيد نفي التأكيد، وهذا غير لائق بهذا الموضع إنما اللائق به تأكيد النفي، فما الوجه فيه؟والجواب: أن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم كان المراد منه المبالغة في تأكيد النفي.ثم قال تعالى: {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} قال أصحابنا: هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان خلافًا للمعتزلة، وهم أجابوا عنه بأنه محمول على المنع من زيادة اللطف، أو على أنه تعالى لا يهديه في الآخرة إلى الجنة. اهـ..سؤال وجوابه: فإن قيل: إن الله تعالى لا يغفر شيئًا من الكفر فكيف قال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ}؟فالجواب أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، فإذا رجع فكفر لم يغفر له الكفر الأول؛ وهذا كما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله قال: قال أُناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: «أمّا من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام» وفي رواية «ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» الإساءة هنا بمعنى الكفر؛ إذ لا يصح أن يُراد بهاهنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله إلاَّ لمن يعصم من جميع السيئات إلاَّ حين موته، وذلك باطل بالإجماع. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: .قال في ملاك التأويل: قوله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} وفيما بعد من السورة نفسها: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم..} الآية.للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف الكنايتين عما إليه الهداية الممنوعة عمن ذكر في الآيتين مع استواء حال من ذكر فيهما من التلبس بالزيادة على الكفر وفى الجزاء بعدم الغفران ومنع الهداية ومع أن مسمى السبيل والطرق واحد فما وجه اختلاف الكناية باسم السبيل في الأولى والطرق في الثانية؟والجواب والله أعلم: أن السبيل والطريق وإن استويا واتحد معناهما فيما ذكر فبينهما فرق واضح عن حيث أن مواضع السبيل أكثر ترددا في الكلام ففى إطلاق لفظه توسعه وعموم ليست في إطلاق لفظ طريق فقد ورد ذكر السبيل في الربع الأول من الكتاب العزيز في بضع وخمسين موضعا أو نحو ذلك من ذلك في سورة البقرة أربعة عشر موضعا أولها قوله تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} وآخرها قوله تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} وفى آل عمران ستة مواضع وفى النساء ستة وعشرون موضعا وفى المائدة والأنعام تسعة مواضع ولم يقع ذكر الطريق في كتاب الله كله إلا في أربعة مواضع ثم إن اسم السبيل مع ما تقرر من كثرة ترداده أغلب وقوعا في الخير وسبيل السلامة إفصاحا وإشارة، ولا يكاد اسم الطريق يرد مرادا به السلامة والخير إلا مقرونا بوصف أو إضافة أو ما يخلصه لذلك كقوله تعالى: {يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم}.وإذا تقرر هذا فقوله تعالى في الآية الأولى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا} حاصل منه وسم هؤلاء بشر وصف وأعظمه وأبلغه بأقصى غاية في شنعة المرتكب فليست حال من كفر بعد إيمان كحال من لم يتقدم كفره إيمان قال تعالى فيمن توعده بأشد الوعيد: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} إلى ما وصفوا به من استحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة وإنما وقع ذلك منهم بعد علمهم بكيان الآخرة وتصديقهم بها ثم اختاروا الدنيا عليها فحالهم حال من أضله الله على علم ولا أسوأ حال من هؤلاء.أما الموصوفون في الآية الثانية بالكفر والظلم فدون هؤلاء في شنعة المرتكب والمبالغة في الضلال ألا ترى أن حال الكافر الذي لم يتقدم منه إيمان ليست كحال من تقدم منه إيمان لكفر هذا على علم ولا حال من وصف بالظلم وإن كان يقع على الكفر وما دونه كحال من وصف في الآية الأولى بعوده إلى الايمان ثم إلى الكفر بعد ذلك ثم الازدياد في الكفر فلما بلغت حال هؤلاء فيما وصفوا به أشنع غايات الكفر والضلال وأشدها تخبطا ناسب ذلك الكناية عما صدوا عنه ومنعوه بالسبيل مناسبة بين حالهم والممنوع من محسود مآلهم ولما لم يكن وصف الآخرين بالكفر والظلم يبلغ شنعة المرتكب مبلغ أولئك عدل في الكناية عما منعوه إلى ما يناسبه وجرى كل على ما يجب ويناسب ولم يكن عكس الوارد ليلائم ولا ليناسب والله أعلم. اهـ..من فوائد السمرقندي في الآية: قال رحمه الله:قوله تعالى: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} قال مقاتل: يعني آمنوا بالتوراة وبموسى عليه السلام، ثم كفروا من بعد موسى، ثم آمنوا بعيسى عليه السلام والإنجيل، ثم كفروا من بعده {ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا} بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.ويقال: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى، ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من قبل أن يبعث، ثم كفروا به بعدما بعث، ثم ازدادوا كفرًا يعني ثبتوا على كفرهم.وقال في رواية الكلبي: آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا به بعده، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرًا يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم.وقال في رواية الضحاك: نزلت في شأن أبي عامر الراهب، وهو الذي بنى مسجد الضرار، آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر، ثم آمن ثم كفر ومات على كفره.وقال الزجاج: يجوز أن يكون محاربًا آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر، ويجوز أن يكون منافقًا أظهر الإيمان وأبطن الكفر، ثم آمن ثم كفر، ثم ازداد كفرًا بإقامته على النفاق.فإن قيل: إن الله تعالى لا يغفر كفرًا مرة واحدة فإيش الفائدة في قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ}؟ قيل له: لأن الكافر إذا أسلم فقد غفر له ما قد سلف من ذنبه، فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر الله له الكفر الأول، فهو مطالب بجميع ما فعل في كفره الأول، فذلك قوله عز وجل: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} يعني إذا ماتوا على كفرهم {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} أي يوفقهم طريقًا. اهـ..من فوائد أبي حيان في الآية: قال رحمه الله:{إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلًا} لمّا أمر بالأشياء التي تقدم ذكرها، وذكر أنّ من كفر بها أو بشيء منها فهو ضال، أعقب ذلك بفساد، وطريقة من كفر بعد الإيمان، وأنه لا يغفر له على ما بين.والظاهر أنها في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين، فحيث لقوا المؤمنين {قالوا آمنا} وإذا لقوا أصحابهم {قالوا إنا مستهزئون} ولذلك جاء بعده بشر المنافقين، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه.ومعنى ازداد كفرًا بأن تم على نفاقه حتى مات.وقيل: ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين، وإلى هذا ذهب: مجاهد وابن زيد.
|